في قلب المشهد الفني المغربي، تبرز مجموعة من الفنانات التشكيليات اللواتي استطعن أن يتركن بصمات فنية متفردة، ويحولن تجاربهن الشخصية والجمعية إلى أعمال تتجاوز جمالية الشكل لتلامس قضايا الذات، والهوية، والمجتمع.
في هذا المقال، نسلط الضوء على عشر فنانات: الشعيبية طلال، بنحيلة الركراكية، خديجة طنانة، أحلام المسفر، سناء السرغيني، محاسن الأحرش، صفاء الرواس، أمينة بنبوشتة، مونية تويس، نجوى الهيتمي، ونسبر أغوار أعمالهن وتجاربهن الغنية.
الشعيبية طلال: رائدة الفن الفطري بلا منازع
تعد الراحلة الشعيبية طلال من أبرز الفنانات المغربيات اللاتي بصمن تاريخ الفن التشكيلي المغربي بطابع فطري عصامي.
انطلقت مسيرتها من حلم، لتصبح أيقونة عالمية في المدرسة الفطرية، وتعرض أعمالها إلى جانب كبار الفنانين أمثال بيكاسو وميرو.
رغم افتقارها للتكوين الأكاديمي، فإن فنها، الذي يستلهم الطبيعة والطفولة وذكريات الريف، حظي باعتراف دولي واسع. لوحاتها تُقرأ كحكايات لونية بسيطة وعميقة، تكشف عن صدق تعبير لا تحده القوالب الجاهزة.
بنحيلة الركراكية: الفن كتعبير عن الهوية والمقاومة
من مدينة الصويرة، برزت الفنانة بنحيلة الركراكية كصوت فطري نسوي، دخل عالم التشكيل في سن متأخرة، بدافع من الحب والحاجة والتمرد على التقاليد.
اشتغلت الركراكية على مواضيع ترتبط بالمرأة والمجتمع، وامتلأت لوحاتها بعيون حائرة تبحث عن النقص الغائب في الوجدان الجمعي.
خديجة طنانة: من السياسة إلى التشكيل، مسيرة تفيض بالتمرد
تنتمي خديجة طنانة إلى جيل من الفنانات اللائي مزجن بين النضال السياسي والفعل الإبداعي. درست العلوم السياسية في فاس ثم في جامعة السوربون، وعملت أستاذة جامعية وناشطة حقوقية، قبل أن تعتزل السياسة نهائياً سنة 1993 لتتفرغ للفن التشكيلي.
تعلّمت الرسم بشكل عصامي، وقدّمت أول معرض فردي لها في السنة ذاتها. تعتمد طنانة أسلوباً تعبيرياً متعدد الوسائط، مستعملة مواد كالتّراب، القماش، الخشب، القهوة والورق، في اشتغالها على تيمات نسوية، وأخرى تمس قضايا مثل الهجرة، الموت، والانتفاضة الفلسطينية.
تتّسم أعمالها بجرأة تعبيرية تستلهم الجسد كحقل رمزي مفتوح، ما يجعل تجربتها تنبض بفرادة واضحة وبنزوع تحرّري يرسّخ حضورها في المشهد التشكيلي المغربي.
أحلام المسفر: من المادة إلى الروح
تُعد أحلام المسفر من أبرز رائدات الفن التشكيلي في المغرب. درست الفنون في باريس، وراكمت تجربة تمتد لعقود في الرسم والنحت والفن التركيبي.
أعمالها تنطلق من المادة، لكنها لا تلبث أن تتحول إلى تأملات صوفية، روحانية، تستبطن العلاقة بين اللون والضوء، وبين الظل والغياب.
تشتغل المسفر على اللوحات الأحادية اللون، وخاصة الأزرق، كمجال للتطهر البصري.
كما أن حضورها القوي في المعارض الدولية والبيناليات، وتأسيسها لدار الفن المعاصر بمدينة بريش، جعل منها إحدى الدعامات الأساسية لتكريس الفن كرافد للتسامح والحوار.
سناء السرغيني: الوريثة الشرعية لفن الحفر والجداريات
تتألق الفنانة سناء السرغيني كاسم شاب ولامع في سماء الفن المغربي المعاصر، مستثمرة إرثاً فنياً عائلياً غنياً، فهي ابنة الفنان الراحل محمد السرغيني، أحد رواد التشكيل المغربي.
تتميز أعمالها بالاشتغال الدؤوب على فن الحفر والجداريات، حيث تجمع بين الحس الجمالي، والدقة التقنية، والتفاعل مع الفضاء العام.
لا تخشى سناء تحدي الجدران العالية أو صفيح النحاس، بل تحفر بخيالها العميق، وتلون بجسدها، كأنها تنقش حضورها داخل الذاكرة الجماعية.
نجوى الهيثمي: تشكيل الضوء والرمز في منحوتة معاصر

ومن الأسماء اللافتة أيضًا، تبرز الفنانة التشكيلية والنحاتة نجوى الهيتمي، التي تقدم أعمالًا تنهل من التجريد والشاعرية، وتزاوج بين البساطة وقوة الإيحاء.
تحوّل الهيثمي أفكارها إلى لوحات ومنحوتات تنبض بالضوء والانسيابية، معتمدة على رموز الطبيعة وأشكالها، خاصة الدائرة، لتطرح رؤى بصرية مغايرة تستمد عمقها من التبسيط والاختزال والتقشف اللوني.
وقد عرضت أعمالها في عدد من التظاهرات المغربية والعربية والدولية، مؤكدة حضورها كفنانة تحول طاقتها الداخلية إلى تجارب تشكيلية ونحتية تنصت للروح والجمال والرمز
محاسن الأحرش: الانطباعية الأنثوية و”الترصيص الخلاق”
ومن مدينة تطوان، تنحدر الفنانة محاسن الأحرش، التي اختارت لنفسها مساراً فنياً متأنياً ومتفرداً، بعيداً عن سلطة القاعات الفنية الكبرى.
اشتغالها على جمالية “الترصيص الخلاق” يعكس دقة متناهية في اختيار الألوان والضوء، وتعبير صادق ينبع من تجارب إنسانية ومعاناة ذاتية.
تستلهم الأحرش أسلوبها من المدرسة الانطباعية، مستحضرة أثر فنانين مثل مونيه وسيزار، لتعيد تشكيل ذاكرة تطوان العتيقة ومعمارها التقليدي، ووجوه نسائها ورجالها، في توليفة بصرية تشبه الحنين المشبع بالأمل والمقاومة.
صفاء الرواس: التوتر بين الإحساس والإدراك
درست صفاء الرواس الفنون الجميلة في المعهد الوطني للفنون الجميلة بذات المدينة. اختارت أن تحوّل مجرى دراستها من العلوم إلى الفن، لتشق طريقها كفنانة متعددة التخصصات، تسائل عبر أعمالها العلاقة المعقدة بين الجسد، والغياب، والهوية.
تتميز أعمال الرواس بالتجريد والبساطة، وغالبًا ما يُهيمن عليها اللون الأبيض، كرمز للامادية، والهشاشة، والصمت.
توظف في أعمالها مواد حادة مثل الإبر وشفرات الحلاقة، إلى جانب الغرز والدرزات، لتجسد الجراح المفتوحة للذات، وتجعل من اللوحة مختبرًا للتأمل في تصدعات الإنسان المعاصر.
انطلقت تجربتها الفنية أواخر التسعينات، لتشارك لاحقًا في معارض كبرى في المغرب، وفرنسا، والسويد، وأستراليا، والولايات المتحدة، وغيرها.
وتُعد صفاء الرواس من أبرز الأصوات التشكيلية التي كسرت أفق اللوحة التقليدية، وانطلقت في تجريب جمالي تفكيكي يتجاوز المسند نحو الفضاء، والذاكرة، والواقع.
أمينة بنبوشتة: الفن كأداة لفهم المجتمع
أما الفنانة أمينة بنبوشتة، فدرست الأنثروبولوجيا ودراسات الشرق الأوسط بجامعة ماكغيل في مونتريال، قبل أن تلتحق لاحقًا بالمدرسة الوطنية للفنون الجميلة بباريس.
واستطاعت بنبوشتة أن تُجسّد في أعمالها الفنية قضايا النوع الاجتماعي، والسلطة، والهوية، بلمسة تجمع بين البعد المفاهيمي والدراسة السوسيولوجية.
تنوّعها في استخدام الوسائط – من الرسم إلى النحت، والتركيب، والصورة – سمح لها بالغوص في الحياة المعاصرة وتحليل بنيتها الاجتماعية بعمق بصري وفلسفي.
شاركت في معارض عالمية، من بينها بينالي القاهرة والمتحف الوطني للمرأة والفنون في واشنطن، وأسست جماعة “212” سنة 2005 لدعم الفن المعاصر في المغرب.
وتدعو أعمالها إلى مساءلة الأشياء اليومية وإعادة فهمها، من منظور نقدي فني عميق.
مونية تويس: سرد بصري يمزج بين الذات والكون
تعد مونية تويس، التي تلقت تعليمها في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة، وحصلت على الدكتوراه من جامعة برشلونة، فنانة متعددة الاشتغالات، تمزج في أعمالها بين الرسم، والنحت، والسيراميك، والسينوغرافيا.
تتميز أعمالها بألوان متوهجة وأخرى داكنة، وتستحضر في طياتها مشاهد البحر الأبيض المتوسط وتأثيراته الضوئية.
تعكس لوحاتها تأملًا داخليًا، وتدمج بين التجربة الذاتية والكونية، في محاولة لسرد قصص بصرية مستلهمة من الذاكرة، والأسفار، والثقافة المتوسطية.
عرضت أعمالها في معارض دولية عديدة، واستطاعت من خلال تعدد وسائطها الفنية أن تعكس حسًا شعريًا خاصًا، يجعل من كل لوحة مشروعًا بصريًا يعكس ثراء التجربة النسائية المغربية المعاصرة في الفن.
خاتمة: حضور نسائي متجدد في الفن المغربي المعاصر
تجسّد الفنانات التشكيليات المغربيات، من خلال تجاربهن الغنية والمتنوعة، تطور الفن المعاصر في المغرب، وتمكّنه من التعبير عن قضايا المجتمع والهوية والذات بلغة تشكيلية متجددة.
سواء عبر التجريد، أو التركيب، أو الانخراط في الأسئلة الاجتماعية، فإن أعمالهن تبرهن على قوة التعبير النسائي في رسم ملامح جديدة للمشهد الفني المغربي
علاء البكري
The post تشكيليات من المغرب appeared first on مجلة فرح.
Source : https://www.magfarah.com/28032/...