Menu
Articlophile | Agrégateur
Articlophile | Agrégateur de Blogs & Newslettre
Votre passion pour les articles, notre expertise en curation.

Publé le Jeudi 14 Août 2025 à 15:54

صُنع الله إبراهيم





ibrahim.jpg

هادي معزوز 

تعرفت على صنع الله إبراهيم كاتبا، حينما كنت تلميذا في السنة الثانية بكالوريا، لا زلت أذكر أن مدرس اللغة الفرنسية الذي كان يمدني بالروايات ـ شريطة مناقشتها حالما أنتهي منها ـ اقترح علي ذات يوم اسما جديدا خارجا عن الأسماء التي دأبت على الانغماس في سطورها، قال لي بالتحديد: هل تعرف صنع الله إبراهيم؟ ولما أجبته بالنفي رد قائلا: مشكلتك أنك متطرف في قراءاتك لا تبرحُ أسماء بعينها. مدني برواية جميلة عنوانها "بيروت بيروت" ثم انصرف، كان لونها أحمر ورائحة أوراقها تحمل عبقا أخاذا يثير شهوة القراءة قبل كل شيء.

حينما عدت للبيت فتحت الرواية، استفزني أسلوبها الذي يجمع بين السهل الممتنع، والفكرة العميقة، وقد تزامنت فترة قراءتي لها بحدث لازال مترسخا في الذاكرة، فقد كانت درجاتي في المواد الأساسية جد مرتفعة لا تقل عن معدل 19 وقد كنت أمني النفس بالحصول على نقطة مرتفعة في المعدل العام للدورة الأولى، لكن وللغرابة وجدت أن معدلات تلك المواد تقل بكثير عن معدلات الفروض، فقررت بعقلية المراهق التمرد على المدرسين من خلال الجلوس في الطاولة الأخيرة وعدم المشاركة في الدرس، كنت أفتح رواية أطلع عليها طوال الحصة وأحيانا أقوم بملأ خانات الكلمات المسهمة لجرائد الاتحاد الاشتراكي والأحداث المغربية.

ولما فتحت "بيروت بيروت" ناسيا ما يقع في الصف، انتبهت خلسة إلى زميلي الذي يجلس بجانبي "ع.خ" يتلصص على عنوان الكتاب، طلب مني إلقاء نظرة عليه، لكني سأتفاجأ بتغير ملامحه، بل إنه سيعيد الكتاب بطريقة غريبة ثم سيغير مكانه، حينما انتهت الحصة سمعته يقول لزملاء الصف: هل تعلمون أن "معزوز" يقرأ كتابا في الكُفر اسمه "صنع الله إبراهيم؟" المضحك في الأمر أنه لم يقرأ عنوان الكتاب، بل اعتقد ان اسم صاحبه هو اسم الكتاب عينه، والأغرب من كل هذا أنه نطق اسمه خاطئا حينما قال لهم: "صنعَ الله إبراهيم" بفتح العين طبعا، مدافعا عن أن الله يخلق ولا يصنع. صححت له المعلومة وانصرفت، وكانت هذه قصتي الأولى مع "بيروت بيروت".

لن أنكر أن عمله أثارني كثيرا، والدليل أني أنهيت الكتاب بسرعة فاجأت مُدرس اللغة الفرنسية، ولن أنكر أيضا أن فرادته تجلت في كونه حملني مباشرة إلى أحداث بيروت وأخرجني من عالمي إلى عالمها، كان دقيقا جدا في تصوير الأحداث، وكان أكثر دقة في لعبه بشخصية البطل الذي صور كل جوانبه النفسية والوجدانية المتداخلة والمُنفصمة أحيانا، إذ كانت تجمع بين الالتزام للخط النضالي، والاحتجاج على ما يقع، والمغامرة والخيانة والتيه والذوق الفني السينمائي والأدبي.

كان البطل صدى لجيل الستينات والسبعينات التائه، الذي خرج من مرحلة الاحتلال الأجنبي إلى مرحلة الاستبداد المحلي للزعماء والقادة العرب. وكانت الرواية وثيقة تاريخية كُتبت بلغة أدبية بسيطة.

أُصبت حينها بمتلازمة الإدمان على صنع الله إبراهيم، ثم طلبت عنوانا جديدا من مُدرس اللغة الفرنسية، لكنه اعتذر لأنه لا يملك من كتاباته سوى هذه الرواية فقط.. حدثني كثيرا عن مجموعته القصصية "تلك الرائحة" وزاد من الإثارة حينما قال انها كانت محظورة في العالم العربي زمن الرقابة على الكتب والأسطوانات الموسيقية، هرعت إلى مكتبة الثانوية وللأسف لم أجد فيها أي شيء يشير إلى صنع الله إبراهيم.

 ستنتهي مرحلة الدراسة في السلك الثاني ثم سأنتقل إلى السلك العالي، تمكنت من اقتناء العديد من روايات صنع الله إبراهيم، كنت أنغمس في سطورها بنهم، بل أعدت مرارا وتكرارا الاطلاع على أعمال عدة من قبيل تلك الرائحة وبيروت بيروت ونجمة أغسطس وأمريكانلي والجليد واللجنة... كانت قوة صنع الله إبراهيم تكمن تحديدا في منح المكان ثقلا على الرواية، بل سأغامر كي أقول إن أبطال كتاباته ليسوا كائنات بشرية، بل الأمكنة وأحداثهما هم الأبطال الذين يتكلمون على لسان الشخوص الروائية.

تحملنا رواية "أمريكانلي" إلى صنع الله مدرس التاريخ بالولايات المتحدة، المكان في هذا العمل هو البطل الذي يجمع الطلاب من مختلف جنسياتهم مقدما لنا صورة أخرى عن الحلم الأمريكي، هي ليست رواية فقط، بل إنها تأشيرة للدخول إلى بلاد العم سام دون التعقيدات الروتينية ودون التوفر على تذكرة الطائرة حتى.

أما "الجليد" فإنها شكل آخر يخالف تماما "أمريكانلي" فمن الولايات المتحدة الأمريكية إلى الاتحاد السوفياتي ثمة مسافة طويلة لا تقاس بالزمن، ولكن بالشعور والانتماء واللامبالاة والانكسار والتيه والتفوق والهزيمة والأمل... وهذه "نجمة أغسطس" تحملنا إلى الرقابة التي كانت مفروضة على الأصوات المناوئة للسلطة زمن العهد الناصري بمصر، تجمع بين حلم بناء السد العالي ووطأة الواقع الذي يكاد يجافي النوايا الحسنة، أو بالأحرى تلك النوايا التي قد تبدو لنا حسنة لكنها مهووسة بالرقابة ووضع الحدود الحمراء داخل كل الدول العربية، حتى تلك التي كانت تحمل شعارات حزب البعث أو التي تميل إلى المعسكر الاشتراكي.

وبين هذا وذاك، لا يسعنا سوى الحديث عن عمله الساخر الجدي "اللجنة" تلك التي بُنيت على الانغلاق سواء فيما يتعلق بالمكان: القاعة/البيت أو بالعقليات المتحجرة، أو بالفساد الذي يستشري في كل ركن من أركان الدولة الوطنية الحديثة بمؤسساتها التي لا تعدو سوى بروباغوندا فقط. ربما لن أتحدث عن عمله "ذات" سأتركه للقارئ كي يطلع عليه.

تواصلتُ ذات يوم مع صنع الله إبراهيم من أجل القيام بحوار حينما كنت أكتب بجريدة أخبار اليوم المغربية، لكنه لم يُكتب له ذلك، نظرا إلى عدم الاتفاق على بعض التفاصيل، كنت حقا أمني النفس بعقد هذا الحوار لكنه سيتبخر مثلما تبخر الرجل من دنيا الناس، إلا أنه سيبقى مرجعا مهما لا يعلى عليه وإن كنت شخصيا لا أتفق على تصنيفه ضمن خانة الأدب الرفيع، أولا من حيث الأسلوب البسيط الذي يكتب به، وثانيا من خلال غياب السحر الأدبي الذي يطبع أعمال الكبار، والدليل أننا سنجده يميل أكثر إلى التاريخ وإن كان قلمه أدبيا محضا، هي ذي فرادته التي تميز بها حقا.

فليرحمه وليرحمنا الله.

The post صُنع الله إبراهيم appeared first on تيل كيل عربي.



Source : http://ar.telquel.ma/%D8%B5%D9%8F%D9%86%D8%B9-%D8%...