عرفت إيران خلال الفترة الأخيرة ضربات نوعية استهدفت أعلى هرم القيادات العسكرية والأمنية، بدءاً من اغتيال رئيس هيئة الأركان وقائد الحرس الثوري وعدد من كبار الضباط، ووصولاً إلى محاولات اغتيال قادة المجلس الأعلى للأمن القومي خلال اجتماع مهم في طهران. هذه التطورات لم تكن مجرد أحداث عابرة أو تصعيد عسكري روتيني، بل كشفت عن عمق الاختراق الاستخباراتي الذي حققته إسرائيل داخل إيران، والقدرة على الوصول إلى مواقع حساسة ورمزية في قلب العاصمة.
انتقلت المواجهة مع الموساد الإسرائيلي من مرحلة حرب الظل إلى عمليات دقيقة على الأرض، استُخدم فيها مزيج من الطائرات المسيّرة، العبوات الناسفة، وفرق اغتيال متخصصة. الأثر الأكبر لهذه العمليات لم يكن فقط في الخسائر البشرية، بل في زعزعة الثقة ببنية المنظومة الأمنية الإيرانية. وبالرغم من تاريخ طويل من العمليات النوعية التي استهدفت علماء ومسؤولين عسكريين كبار، تظل الضربات الأخيرة نقطة تحول مفصلية تؤكد مراكمة الخبرة الإسرائيلية في جمع المعلومات وتجنيد العملاء.
تعاني أجهزة الاستخبارات الإيرانية من تعدد الهياكل التشريعية وتنافسية واضحة بين وزارة الاستخبارات واستخبارات الحرس الثوري، إضافة إلى مؤسسات أمنية موازية أخرى. هذا التشظّي في الصلاحيات أدى إلى تضارب في المسؤوليات وتركت ثغرات أمنية استغلها الموساد بنجاح، في ظل تجذر شبكات نفوذ داخل المؤسسات وصعوبة الرقابة الداخلية الفعّالة. كما كشف طول أمد القيادات في مواقعها الحساسة عن مخاطر الجمود وضعف المواكبة مع تطوّر التهديدات وأساليب الاختراق.
مع كل هذه المعطيات، أطلقت السلطات الإيرانية حملات اعتقال موسعة طالت آلاف الأشخاص ممن اشتُبه في تعاونهم مع جهات أجنبية أو تسهيلهم لعمليات الاختراق. تضمنت الإجراءات تشديد الرقابة الرقمية، حجب تطبيقات أجنبية، وتغليظ العقوبات في سياق محاولة احتواء الخطر. لكن هذه الحملات، رغم اتساعها، لم تفلح في كشف جميع الخيوط، فالإشكال في الأصل هيكلي ويتعلق بالعقيدة الأمنية وآليات العمل الاستخباراتي.
تظهر التجربة أن الاحتواء الفعلي لهذا النوع من التهديدات يتطلب إعادة تعريف الرؤية الاستراتيجية وبناء جهاز استخباري موحّد وفعال يستفيد من الخبرات العالمية ويعتمد على الكفاءة والتجديد. التحدي المطروح اليوم أمام إيران ليس فقط ملاحقة العملاء أو سد الثغرات، بل القدرة على حماية الدولة ونخبها أمام تطور أساليب المواجهة وتداخل العاملين البشري والتقني في الاستخبارات الحديثة.
Source : https://intelligences.articlophile.com/articles/i/...