من بين أكثر التشريعات إثارة للجدل في الديانة اليهودية نجد قاعدة الفصل التام بين الحليب واللحم في النظام الغذائي المعروف بـ "الكاشروت". الغريب في هذا التشريع أنه لا يعتمد على سبب صحي أو بيولوجي، بل يستمد جذوره من نص توراتي يتكرر ثلاث مرات: "لا تطبخ الجدي في لبن أمه". ومن هنا برزت تساؤلات عديدة حول الدافع الحقيقي وراء هذا الفصل الدقيق، في وقت توجد فيه اختلافات واضحة حتى بين الطوائف اليهودية بشأن تفاصيل التطبيق ومدته.
التفسيرات التي قدمها الحاخامات والباحثون على مر العصور جاءت متنوعة، وتعكس تعدد أبعاد النظام الديني اليهودي. فالبعض يربط الأمر بقطيعة ثقافية ودينية مع طقوس قديمة كانت تمارس لدى شعوب مجاورة لليهود في زمن التوراة، كتقديم الجدي مطبوخاً بلبن أمه ضمن طقوس الخصوبة. آخرون يرون في هذا التشريع وسيلة لترسيخ الهوية الجماعية وتعزيز الحدود بين اليهود وغيرهم، كرد فعل طبيعي لتجارب الشتات والتهديدات التي طالما واجهت الجماعة اليهودية عبر التاريخ.
من زاوية أخرى، يعتبر الفصل بين الحليب واللحم تدريباً على الانضباط النفسي والروحي، إذ يفرض على الإنسان وقفة تأملية قبل ممارسة أكثر نشاطاته يوميةً، أي الأكل. كما أن بعض التأويلات الحديثة تنسب لهذا التشريع بعداً أخلاقياً؛ فالحليب رمز للحياة والحنان، واللحم يرمز للموت. الجمع بينهما يصبح رمزياً نوعاً من خلط الحياة بالموت في فعل واحد، وهو أمر يتحاشاه اليهود حفاظاً على نقاء العلاقة مع الخالق.
الملاحظ أن التطبيق الدقيق لهذه القاعدة يتجاوز المائدة ليطال أدوات المطبخ وكل ما يلامس الطعام: أطباق، أواني، وحتى أماكن التخزين. وبينما يشدد بعض اليهود، خصوصاً في أوروبا الوسطى، على الانتظار لعدة ساعات بين أكل اللحوم وتناول الحليب، نجد مرونة نسبية في الاتجاه المعاكس. هذه الدقة في الالتزام تصنع هوية خاصة وتعزز ما يسميه علماء الاجتماع "رأسمال الثقافة الغذائية".
رغم أن الكثير من الديانات تضع ضوابط لما هو مسموح أو ممنوع في التغذية، إلا أن اليهودية جعلت من قاعدة الفصل بين الحليب واللحم علامة فارقة في علاقتها بالتاريخ والمجتمع والسيكولوجيا الدينية، ما يعطي لهذا التشريع، على غموضه، قيمة رمزية مستمرة عبر الأزمنة والأمكنة.
Source : https://soubha.articlophile.com/arabic/i/90148330/...